بين الرثاء لحال "محمد بوبكري" والدفاع عن الاتحاد الاشتراكي
ليس من السهل أن يتخلى المرء عن تاريخه وأن يتنكر لعلاقاته (ما لم تكن الحالة مرضية ومستعصية)، خصوصا إذا كان هذا التاريخ ليس فقط مليئا بالأحداث المشتركة، السارة منها وغير السارة، الشخصية منها والعامة، بل وأيضا يمتد على فترة زمنية ليست بالهينة. وليس من السهل، أيضا، أن يفهم أو يتفهم المرء ما قد يكون هناك من مبررات لطي صفحة علاقة صداقة، عمرت أكثر من ثلاثين سنة. لذلك، فكل من يعرف الأخ "محمد بوبكري"، إلا ويتساءل عما حدث له لينقلب من المناصر لصديقه الأخ "إدريس لشكر" في كل شيء إلى منتقد له في كل شيء، وبشراسة (حتى لا أقول بوقاحة) تجاوزت كل الحدود. وهذا التساؤل (المشروع، طبعا) هو ما دفعني إلى كتابة هذه السطور. فرغم أني مقتنع، في قرارة نفسي، بأن من وراء سطور كتابات "بوبكري"، ما يبعث على الإشفاق والمواساة، إلا أن نفسي لم تطاوعني في تجاهل مواقفه الجديدة وهجوماته المتكررة على الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ لذلك قررت أن أخوض، مرة أخرى، غمار السجال مع المعني بالأمر، ليس دفاعا عن الأخ "لشكر" (فهو غير محتاج لذلك إطلاقا)، وليس تشفيا في الأخ "بوبكري" (فهو محتاج إلى الدعم النفسي وليس العكس)، بل حسرة على ما أصاب صدق الكلمة ومصداقية المواقف، في كتاباته، من امتهان واستهانة واستخفاف.
فلو أن الانتقادات الحادة الموجهة للكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية صدرت عن اتحادي آخر لا تربطه بالأخ "إدريس لشكر" إلا العلاقة التنظيمية، أو أن نفس الانتقادات صادرت عن شخص من تنظيم منافس، لما كان لي نفس رد الفعل الذي اضطررت إلى التعبير عنه تجاه ما يكتبه "بوبكري" الذي يعتقد بأنه يصفي حساباته مع صديقه "إدريس لشكر"، بينما هو يضر حزبه ضررا بالغا بتقديم خدمة مجانية (؟) لخصوم الحزب وأعدائه. فهؤلاء لا يهمهم أن يكون ذلك يندرج ضمن تصفية الحسابات الشخصية؛ ما يهمهم هو الإمكانية التي تعطى لهم للمساس بالحزب وبمؤسساته وأطره.
شخصيا، لم تربطني يوما علاقة شخصية أو خاصة مع الأخ "إدريس لشكر". فخلال مساري النضالي داخل الاتحاد (منذ نهاية السبعينيات إلى محطة المؤتمر الوطني التاسع) ، لم أتذكر أني شاركته، يوما، في احتساء كأس شاي أو فنجان قهوة أو جمعني به لقاء خاص. لكنه الآن، وقد أصبح يمثل كل الاتحاد الاشتراكي، بكل خلافاته واختلافاته وبل مناضلاته ومناضليه، لا يمكن لي أن أقف موقف المتفرج أمام الطعنات التي توجه لـ"إدريس لشكر"، ومن خلاله إلى كل الاتحاد بماضيه وحاضره ومستقبله. ولهذا السبب، ساهمت، بكل تواضع، بما استطعت في مواجهة الحملة التكفيرية التي تعرض لها لمجرد أنه طالب بفتح حوار عمومي حول قضايا تهم المرأة والمجتمع.
ومن مكر الصدف، أن يكون سبب رد الفعل الذي أنا بصدد صياغته على شكل مقال، هو مروري بأحد مقاهي العاصمة الإسماعيلية، حيث وجدت مجموعة من الأصدقاء والمناضلين يتحدثون عن مقال لـ"بوبكري"( لم أكن قد اطلعت عليه بعد)، صدر في إحدى الجرائد المعروفة بخطها التحريري المعادي لحزب القوات الشعبية ومشهورة بتلفيقاتها المتنوعة التي تقطر غلا وحقدا على الاتحاد وأطره. وكان السؤال المتردد على لسانهم هو: "ما ذا حدث لـبوبكري؟" ذلك أن الكل يعرف بأن "بوبكري" و"لشكر" شكلا داخل الحزب ثنائيا تاريخيا قل نظيره، رغم أن البعض لم يكن يعطي لـ"بوكري" دورا، في هذه العلاقة، أكبر من الدور الذي يلعبه "سانشو بانشا" في رواية "دون كيخوطي ذي لمانشا" للكاتب الإسباني الشهير "سيرفانطيس".
أما المناضلون الذين تتبعوا تحضير المؤتمر الوطني الأخير أو شاركوا فيه، فيعلمون علم اليقين ما قام به "بوبكري" ليصل صديقه إلى منصب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لذلك، فهم يستغربون هذا التحول الكبير في مواقفه تجاه صديقه "إدريس لشكر". فبعد أن كان مديرا لحملته الانتخابية في السباق نحو الكتابة الأولى لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (وبالمناسبة، فإن بعض التجاوزات التي تحدثت عنها الصحافة فيما يخص المؤتمر الوطني التاسع للحزب، يرجعها البعض، إن كانت قد حدثت بالفعل، إلى السيد "محمد بوبكر")، أصبح، بين عشية وضحاها، يكيل له كل التهم ويحمله مسؤولية كل الآثام، بعد أن أخرجه من النخبة وجعله من العامة، واصفا إياه بالفراغ الفكري وبالتبعية السياسية، إلى غير ذلك من التهم التي تسيء إلى "بوبكري" أكثر مما تسيء إلى"إدريس لشكر"، لأن تحوله هذا يطرح، بحدة، سؤال المصداقية في أقواله ومواقفه؛ وهذا، في حد ذاته، خسارة معنوية كبرى (ربما أنه لا يدرك قيمتها وأهميتها)، بالإضافة إلى الإساءة التي يلحقها بالحزب الذي تربى في أحضانه والذي لا يزال قياديا فيه.
نحن لا نريد أن نشهِّر بـ"بوبكري" ونتهمه بالذاتية والأنانية ونكران الجميل، الخ. ولا نريد أن نجعل من علاقاته الجديدة السبب الرئيسي وراء هذا التحول الجذري في المواقف؛ كما أننا لا نريد أن نجد لهذا التحول مبررا في انشغال صديقه عنه بأمور الحزب وتركه يواجه مشاكله الخاصة لوحده؛ لكن لا بد أن نسجل بأن ما يريد "بوبكري" أن يضفي عليه الطابع التحليلي والفكري، ما هو، في الواقع، إلا موقف ذاتي صرف؛ فما يكتبه لا علاقة له لا بالتحليل ولا بالموضوعية ولا بالفكر، بل يتحكم فيه الحقد والغل ويمليه التغير الحاصل في الولاءات (وأصدقاؤه يعرفون جيدا ما ذا أقصد بهذه الإشارة الأخيرة؛ فالأمر لا يتعلق بمهمة نائب الكاتب الأول كما شاع من قبل بين الاتحاديين، بل بأشياء أخرى بعيدة عن توزيع المهام داخل المكتب السياسي وبعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة).
نحن، في مكناس، لا زلنا نتذكر وجود الأخ "محمد بوبكري" بيننا، إلى جانب الأخ "إدريس لشكر"، الكاتب الأول للحزب، في أول حضور له لنشاط عام بهذه الصفة بعد المؤتمر الوطني التاسع، وذلك بمناسبة الذكرى الأربعينية للمرحوم الأخ "عبد العزيز الركراكي" الذي وافته المنية أياما بعد المؤتمر (ولم نكن نتصور حضور الأخ "لشكر" بدون "بوبكري" الذي عرفناه لصيقا به كظله). وعلى هامش الذكرى، لم يفت "بوبكري"أن ينفرد ببعض المناضلين الذين عايشوه (أو عايشهم، فالأمر سيان) في صفوف الشبيبة الاتحادية والقطاع الطلابي الاتحادي، ليطلب منهم أن يقفوا إلى جانب الأخ "إدريس" باعتباره رجل المرحلة القادر على النهوض بالحزب وبأعباء إعادة بناء أجهزته، الخ. لذلك، فإن هؤلاء يستغربون جدا مواقف "بوبكري" الحالية ويتساءلون عن خلفياتها ودوافعها.
لقد سبق لي، شخصيا، أن كتبت مقالا في هذا الموضوع بعنوان "لقد أكثر محمد بوبكري: سؤال المصداقية في كتاباته ومواقفه"؛ وذلك بعد أن نفذ صبري أمام تمادي "بوبكري" في توجيه سهامه المسمومة إلى حزبه، بواسطة مقالات صحفية (حوالي 10 مقالات)، كلها تحامل على الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وبما أن الحقد يعمي صاحبه، فقد اعتقد بأنه بذلك يسيء إلى خصمه الجديد، ويصفي حساباته معه بالنيل منه ومن سمعته. لكن هو، في الواقع، يسيء إلى كل المؤتمرين الذين انتخبوا الكاتب الأول وانتخبوه هو أيضا ضمن قيادة الحزب. ويسيء لنفسه أكثر باعتباره مديرا لحملة "إدريس لشكر". والذي يقرأ ما يكتبه عن صديقه، يدرك أنه تجاوز كل حدود الحوار الفكري وحدود المصلحة الحزبية وحدود الأخلاق النضالية وحدود الحوار الداخلي للحزب الذي هو عضو في مكتبه السياسي. هذا، دون الحديث عن الخدمة المجانية(؟) التي يقدمها، بهذا السلوك، لخصوم الحزب وأعدائه، كما أسلفنا.
لم يُرد "بوبكري" أن يفوت فرصة الحملة التكفيرية التي استهدفت صديقه "إدريس لشكر"، ليجد فيها المناسبة لتجديد هجوماته عليه وتحميله وزر كل الخطايا وكل المشاكل، سواء الحزبية منها أو الوطنية. وهكذا، انخرط، على طريقته، في الحملة عليه باتهامه، مرة، بزرع الفتنة، وأخرى، بتواطئه الضمني "مع الحكومة أو مع من هم وراءها"(والفاهم يفهم!). فإلى جانب عنوان المقال ("الزعامة السياسية: بين الفراغ الفكري واستجداء التكفير"، جريدة "أخبار اليوم"، الخميس 6 فبراير 2014 ) الذي يحمل في طياته ما يحمله من غمز ولمز، فإن الأسلوب المعتمد لا يختلف كثيرا عن أسلوب "أبو النعيم" وكل الجوقة التي انخرطت في الحملة التكفيرية ضد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. فـ"بوبكري"، مثله مثل "أبو النعيم"، لا يتحدث عن حوار حول المواضيع والقضايا التي ذكرها "لشكر" في كلمته في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني السابع للنساء الاتحاديات؛ بل يتحدث عن "المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، ومنع تعدد الزوجات، وتجريم زواج القاصرات" (مقدمة المقال).
وبدل أن يتحلى بالموضوعية وبالنزاهة الفكرية ويرى في رفض "لشكر" عروض الاستجوابات المقدمة إليه من قبل بعض وسائل الإعلام للحديث في الموضوع ، أن الأمر مرتبط بالاحترام الواجب لذوي الاختصاص- خصوصا وأنه لم يزد عن المطالبة بفتح حوار حول القضايا المطروحة، مع استحضار المقتضيات الدستورية المرتبطة بنفس الموضوع- راح يتهمه بالفقر الثقافي والفراغ الفكري، الخ. وليضفي على تراهاته سمة المتتبع والمراقب للرأي العام، استنجد بكلمات فارغة ولا تعني شيئا من الناحية العلمية والأكاديمية، مثل الملاحظون والمتتبعون وغيرهما.
وليس في نيتي أن أتتبع المقال في تفاصيله؛ فالمقام لا يتسع لذلك. ويكفي المرء أن يتمعن في صياغة العنوان ليدرك مدى التحامل والحقد والغل ويتصور ما يحتويه المقال من أشياء لا تمت للواقع بصلة. لكن لن يفوتني الوقوف عند الفقرة التي تحدث فيها "بوبكري" عن وضع المثقفين داخل الاتحاد. يزعم "بوبكري" أن المثقفين غادروا الاتحاد ويحمل المسؤولية في ذلك لـ"إدريس لشكر"، حيث كتب يقول: "ألا يرى هذا المسؤول أن طبيعة شخصيته وفكره وسلوكه هو ما ينفرهم منه؟". فهل يتصور عاقل أن يغادر المثقفون الاتحاد، بالشكل الذي يدعيه "بوبكري"، لمجرد وجود الأخ "لشكر" على رأس الحزب؟ فهذا الادعاء فيه تنقيص في حق المثقفين. فالمثقف الحقيقي لن يكون إلا مناصرا للديمقراطية، كيفما كانت نتائجها. والمثقفون الاتحاديون الذين تتبعوا أطوار التحضير للمؤتمر الوطني التاسع، يعرفون أنه، رغم كل النواقص، قد شكل محطة هامة تميزت بالتجديد والإبداع والسبق في أسلوب التحضير وفي صيغ التنافس.
وإذا كان الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بالصورة التي يقدمها "بوبكري"، فالسؤال هو: كيف تحمل هذا الأخير صديقه لمدة 35 سنة؟ وبما أن "بوبكري" يعتبر من مثقفي الاتحاد، فلماذا صبر كل هذه المدة دون أن ينفره سلوك صديقه من الحزب؟ ويهمنا، في هذا الصدد، أن نعرف من هم المثقفون الذين يقصدهم "بوبكري". فحسب علمي المتواضع، فإن الندوات الفكرية والسياسية التي نظمها الحزب في المدة الأخيرة استقطبت مثقفين وأكاديميين، مشهود لهم بعلو كعبهم في مجال تخصصهم. اللهم إن كان يقصد ذاك الصنف من المثقفين الذين لا يعترفون بالنتائج الديمقراطية إلا إذا كانت لصالحهم أو، بعبارة أخرى، لا تعنيهم الديمقراطية إلا بالقدر الذي يستفيدون منها. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نقول لـ"بوبكري": لقد تأخرت وفاتك أن تمشي في جنازة الاتحاد بعد أن أعلن البعض موته؛ كما فاتك أن تغسل يدك على الحزب ومن الحزب في الوقت المناسب". أما الآن، فيبدو أن الشرعية الديمقراطية التي دشنها المؤتمر الوطني الثامن وكرسها المؤتمر الوطني التاسع، بما له وما عليه، قد بدأت تعيد الحيوية (أو على الأقل بعض الحيوية) إلى صفوف الاتحاد بشكل خاص وإلى المشهد السياسي بصفة عامة.