الوساطة .. رؤية مقاصدية ومقاربة فعالة لتسوية المنازعات الأسرية
إن الأسرة، رغم غموض مدلولها واختلاف وجهات النظر حول تعريفها تبعا لاختلاف الزاوية التي ينظر منها كل باحث، إلا أن الاتفاق قائم حول محوريتها في صياغة الوجود الإنساني الفردي والجماعي وأهميتها كنظام اجتماعي يؤدي وظائف ضرورية وحيوية . هي نواة المجتمع عن طريق رابطة الزواج بين رجل وامرأة يتفرع عنهما البنون والحفدة ، أولادا وأسباطا ، ثم أعماما وعمات وأخوالا وخالات. أولاها التشريعالإسلامي عنايةخاصةوبوأهامنزلةعالية باعتبارها نظاما اجتماعيا متكاملا مع باقي أنظمة المجتمع الأخرى التعليمية والاقتصادية وغيرها، كما يظهرالاعتناء بها في كون القرآن الكريم ،الذي منهجه الإجمال ،قدفصَّل أحكامها وأفاض الحديث عن شؤونها من خلال منظومة تشريعية دقيقة متماسكة مفصلة غير مقتصرة على الجانب الإجرائي القانوني، بل معززة بمجموعة من القيم التي تشكل سداها وتمثل لحمتها حتى تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل لتنعم بالاستقرار والتساكن بين أفرادها ، بل إنك إن أمعنت النظر وجدت أن موضوع الأسرة هو ثاني موضوع تفصيلي في التشريع بعد موضوع العبادات.. اعتنى بها الشرع الحكيم مصاحبة ومواكبة وتتبُّعا من وقت إنشاء الزواج أو التفكير فيهإلى أن يقرر الله تعالى التفريق بين الزوجين بالموت، أو يصلا بإرادتهما إلى انحلال ميثاق الزوجية، محددا آليات التعامل في كل مستوى ومرحلة على حدة ، سواء في حالة الوفاق أو الشقاق أو مرحلة الطلاق وترتيبات ما بعده.
في هذا السياق تم التنصيص في مدونة الأسرة على مؤسسة الصلح منخلال ما اصطلح عليه بالحكمين ومجلسالعائلة كإطار مؤسساتي أنيطت به مهام التحكيم الأسري لإصلاح ذات البين،وكذا الاستعانة بأي شخص، أو جهة أخرى ترى أنها مؤهلة لتحقيق المصالحة بين الزوجين. تقول المادة :82" للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات ،بما فيها انتداب حكمين أومجلسالعائلة،أومن تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين، وفي حالة وجود أطفال يتعين القيام بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن ثلاثين يوما". وحيث كان التركيز في المرحلة الأولى من تنزيل المدونة منصبا على توفير الوسائل المادية والبشرية والإجراءات المسطرية فقد كان من نتائج ذلك أحيانا شبه تعطيل لمسطرة الصلح أو عدم تطبيقها على الوجه الأكمل. وبعد تقييم موضوعي لهذا المسار تبين أن الحاجة أضحت ملحة إلى البحث عن عناصر الجودة في أداء القضاء الأسري والرقي به إلى المستوى الرفيع الذي يستجيب لطموحات بلدنا في بناء قضاء أسري كفء وفعال
أجل ، فبعد أزيد من عقد من تطبيق مدونة الأسرة، وأمام تنامي حالات النزاعات وضعف محصِّلة العلاج القضائي لملفاتها والمتمثلة في النتائج غير المرضية لغرفة المشورة ومجلس العائلة، أصبحت الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في مسطرة الصلح الأسري، وذلك باعتماد وسائل موازية لتسويتها وحسن تدبيرها خارج ردهات المحاكم بشكل إيجابي وسليم. هنا تبرز الوساطة آليةً ناجعة يسعى من خلالها وسيط محايد ونزيه، في أجواء تتَّسم بالسرية والحوار الهادئ الواعي،للوصول بالأطراف المتنازعة إلى تحقيق معادلة رابح/ رابح من خلال إعداد حيثيات القرار ومنطوقه بأنفسهم وبمحض إرادتهم،بما يتفق مع مصالحهم ومكاسبهم المشتركة .
- وفي السياق ذاته سنّ المشرع المغربي ،ضمن قانون المسطرة المدنية، القانون رقم 08/05المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، والذي جاء بمجموعة من المقتضيات الجديدة والمتعلقة بفضِّ النزاعات دون اللجوء إلى القضاء .
الوساطة الأسرية ضرورة مجتمعية
بعد رصد الفاعلين والقائمين على شأن الأسرة المغربية لواقع حالها ، وإقرارهم بعدم تحقيق الغاية المتوقَّعة من مسطرة الصلح كما ورد في التقرير السالف الذكر، وتحديدا من الصفحة 82 ما نصه:" الصلح فيحاجة إلى مزيد من الجهد والتطويرفي آلياته من أجل تحقيق الغاية منه" . لذا أضحت الحاجة أكثر إلحاحا إلى مأسسة الوساطة الأسرية ، وهذا الذي تمت الإشارة إليه في الصفحة 67 من التقرير نفسه:"وبالرغم منالمجهودالذي تبذله المحاكم فيإصلاح ذات البين بين الزوجين يبقى منالضروري إعادة النظر فيآليات إجراء الصلح بين الأزواج داخل فضاء المحكمة ومعالجة الصعوبات التي تعترض تفعيل مسارالصلح بالشكل الذييضمن تحقيق أفضل النتائج ،وأيضا مأسسة الوساط ةالأسرية بقضاء الأسرة "،ضمانا لتماسك الأسرة وحماية للمصالح الفضلى للأطفال ".
إذا كان كل ما يفضي إلى استقرار الأسرة محمودا ومطلوبا، فقد جاء الخطاب القرآني يحثُّ أولياء المجتمع ويحضُّهم على التدخل الفوري عند توقُّع الشقاق بين الزوجين وظهور بوادره تفاديا لآثار الطلاق الوخيمة على جميع المستويات فقال عز من قائل :"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ،مما يبين بجلاء أن الشأن الأسري ليس شأنا فرديا ، بل هو همٌّ جماعي.
" فابعثوا "...
يقظة مجتمعية بكل المؤسسات والمكونات، واستنفار للطاقات واستنهاض للقدرات وتسخير للجهود بهدف تطويق الخلاف قبل استفحاله، بحيث يأخذ الحكَمان زمام المبادرة ،إذ هما الأعرف ببواطن الأحوال وأقرب للإصلاح ونفوسُ الزوجين إليهما أسكن، فيفصلان بكل حياد وموضوعية في النزاع بما يضمن سريته وخصوصيته ، حتى إذا توافقت إرادة الزوجين مع نية الحكمين تحققت النتيجة المرجوة بإذن الله تعالى . لكن ، ما العمل إذا ما تخلَّفت واسطة القرابة أو عجزت عن القيام بهذه المهمة الجليلة ، وغابت الشروط الذاتية والموضوعية للتدخل الإيجابي الناجح من قبلهما في محاولتهما استقصاء أسباب النزاع ومحاولة التوفيق وتذويب الخلافات بين الزوجين ؟ أرى أن الوضع في هذه الحالة يستدعي تدخل طرف ثالث من خارج دائرة الأسرتين عملا بقاعدة " للوسائل حكم المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ذلكم الشخص هو الوسيط الذي يتدخل في مرحلة الشقاق، إما رجوعا إلى حالة الوفاق ، أو تدبيرا راشدا للطلاق .