في كل مجتمع، هناك لحظات فارقة تكشف مدى وعي الشعب، ومدى استعداده لمواجهة الظلم الاقتصادي والاستغلال الجشع. وفي المغرب، لم تأت هذه اللحظة من ساحة سياسية، ولا من قرار حكومي، بل خرجت من سوق السمك، من بين صرخات الباعة وصيحات المشترين، ومن دكان بسيط لرجل قرر أن يقول "لا" للمضاربة.
لم يكن عبد الإله رجل أعمال ثريًا، ولا مسؤولًا حكوميًا، ولا زعيمًا لحركة اجتماعية، بل كان مجرد بائع سمك بسيط، لكنه حمل في قلبه إحساسًا بالعدالة الاقتصادية أكبر من أي مسؤول. حين رأى أسعار السردين تقفز بشكل جنوني لا لقلة العرض، بل بسبب جشع الوسطاء والمضاربين، قرر أن يتحدى المنظومة.
وقف عبد الإله في سوق السمك وعرض بضاعته بسعر معقول، غير مكترث بحيتان المضاربة التي تتحكم في السوق. لم يكن يعلم أن خطوته الصغيرة ستشعل شرارة ثورة اقتصادية اجتماعية، وأن اسمه سيتردد في أرجاء المغرب كمثال لرجل بسيط حارب الاستغلال بلا شعارات، بل بفعل بسيط لكنه شديد التأثير.
ففي كل أزمة اقتصادية، هناك طبقة تعيش على معاناة الآخرين. المضاربون هم أخطبوط الأسواق، يرفعون الأسعار بلا سبب سوى لجشعهم، يمتصون دماء البسطاء في صمت، يتسترون وراء مبررات واهية: "قلة العرض"، "ارتفاع التكاليف"، "قانون السوق". لكن الحقيقة هي أن هناك حلقة مفقودة بين المنتج والمستهلك، تتحكم فيها فئة تعيش على الوساطة والاحتكار، ولا تضيف أي قيمة سوى تضخيم الأرباح.
هؤلاء الشناقة والمضاربون لا يعملون في الخفاء، بل أمام أعين الجميع، يستغلون الحاجة اليومية للناس، يفرضون أسعارهم كما يشاؤون ، ويتخدونها وسيلة للثراء السريع. فهم يعلمون أن المستهلك المغربي لم يعتد على المقاومة، وأنه غالبًا ما يرضخ ويشتري رغم أنفه.
لكن قصة عبد الإله مول السردين كانت استثناءً، لأن الناس استجابوا لها بقوة. تداولها المغاربة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوافدوا إلى دكانه لدعمه، وبدأوا في التساؤل: لماذا نشتري السمك بأسعار مضاعفة، بينما البحر مغربي والصيد مغربي؟ كيف يمكن لرجل بسيط أن يبيع السردين بسعر معقول، بينما تجار الجملة والموزعون يرفعونه بلا سبب؟ هل نحن ضحايا نظام اقتصادي مختل؟
ما حدث بعد ذلك كان تحولًا مذهلًا. بدأ المواطنون يدركون أن المستهلك يعد قوة قادرة على تغيير المعادلة، وأن عي الناس هو العدو الأكبر للمضاربين، لأنه إذا رفض المغاربة شراء السلع بأسعار خيالية، سيسقط الاحتكار تلقائيًا.
ما فعله المضاربون في سوق السمك، يحدث في كل قطاع: الخضر، الفواكه، اللحوم، المحروقات، العقار، وحتى المواد الأساسية. في جميع هذه الأسواق، هناك دائما فئة صغيرة تستفيد بشكل غير أخلاقي من ارتفاع الأسعار، وتكدس الثروات على حساب المواطن البسيط. هؤلاء لا يتوقفون عن استنزاف جيوب الشعب، وكأنهم يعاملون المواطنين كأرقام في معادلة الربح. هذه الفئة لا تفكر إلا في المكاسب، ولا يهمها إن كانت العائلات تعاني، أو إن كان المواطن العادي يضطر إلى التخلي عن احتياجاته الأساسية. فالغلاء المصطنع هو خنجر في قلب القدرة الشرائية للناس، وتدمير مباشر للطبقة المتوسطة والفقيرة.
إن ما حدث مع عبد الإله مول السردين أثبت أن التغيير ممكن. ليس عبر قرارات فوقية، بل عبر وعي شعبي حقيقي. حين يدرك المواطنون أن لهم سلطة، وأنهم قادرون على إسقاط المضاربة بالمقاطعة والاختيار الذكي، سيصبح السوق أكثر عدلًا واتزانا.
فإذا قرر المغاربة يومًا أن يكونوا جميعًا مثل عبد الإله، فإن زمن الشناقة والمضاربين سينتهي. لأن السوق، مهما بدا متحكمًا فيه، لا يستطيع الصمود أمام وعي المستهلكين.
وختاما، هناك من يريد أن يقنعنا بأن الاقتصاد محكوم بقوانين صارمة، وأن الأسعار لا تخضع إلا لمنطق السوق. لكن الحقيقة أن الاقتصاد يخضع لمنطق البشر، وأنه يمكن تغييره متى قرر الناس أن لا يكونوا ضحايا. فعبد الإله مول السردين لم يكن بطلًا خارقًا، ولم يكن يملك نفوذًا أو قوة سياسية، لكنه كان يملك سلاحًا أقوى: الضمير الحي والشجاعة . فهل سيتحول هذا النموذج إلى قاعدة عامة، أم سيبقى استثناء في سوق يأكله الجشع؟